المركز السويدي لدراسات الأمن الدولي والإرهاب – SCISTS
تحليل – تتبلور في الشرق الأوسط ملامح محور أمني إسلامي جديد، في ظل التحولات الجارية في موازين القوى الإقليمية. فالتحالف الدفاعي التاريخي بين المملكة العربية السعودية وباكستان، الذي تم توقيعه في سبتمبر 2025، لا يمثل مجرد خطوة في مسار العلاقات الثنائية بين البلدين، بل يعكس أيضًا تحوّلًا استراتيجيًا أوسع نحو تقليص الاعتماد التقليدي على الضمانات الأمنية الغربية، مقابل سعي القوى الإسلامية الصاعدة إلى بناء قدراتها الذاتية وتعزيز التنسيق في مجالات الدفاع والأمن المشترك.
يرتكز هذا الاتفاق على إرث طويل من التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري بين الرياض وإسلام آباد، ما أفرز شراكة متينة ذات ثقل إقليمي مؤثر. وفي ظل تصاعد التوترات السعودية–الإيرانية وتراجع الثقة في المظلة الأمنية الغربية، يمكن النظر إلى هذه الاتفاقية باعتبارها نقطة انطلاق محتملة لتشكيل محور أمني إسلامي أوسع، قد يعيد رسم توازن القوى في الشرق الأوسط ويغير معادلاته الاستراتيجية التقليدية.
العلاقات بين المملكة العربية السعودية وباكستان: السياق التاريخي
منذ استقلال باكستان عام 1947، برزت المملكة العربية السعودية كأحد أبرز الداعمين السياسيين والاقتصاديين لها. فقد رأت الرياض في إسلام آباد شريكًا استراتيجيًا لتعزيز دور العالم الإسلامي على الساحة الدولية، بينما اعتبرت باكستان المملكة مركزًا للهوية الإسلامية والمرجعية الدينية، مما منح العلاقات بينهما بعدًا خاصًا في السياسة الباكستانية.
خلال العقود الأولى، تمحور التعاون حول الدعم الاقتصادي، حيث ساعدت السعودية باكستان عبر تزويدها بالنفط بأسعار تفضيلية، وتقديم القروض والمنح، في حين دعمت إسلام آباد المواقف السعودية في القضايا العربية والإسلامية. ومع مرور الوقت، انتقلت العلاقة إلى مستوى أعمق شمل التعاون العسكري والأمني، إذ استعانت السعودية بالخبرات الباكستانية لتدريب قواتها، وشارك طيارون باكستانيون في حماية أجوائها، خاصة خلال حرب 1973.
في الثمانينيات، توسع التعاون العسكري ليشمل إرسال قوات باكستانية لحماية المنشآت السعودية خلال الحرب الإيرانية–العراقية، وتطور لاحقًا ليشمل مجالات الصناعات الدفاعية وتبادل الخبرات التقنية. وقد ساهمت باكستان بخبراتها في تطوير الأسلحة، بينما قدمت السعودية الدعم المالي لبرامج التحديث العسكري الباكستاني، مما جعل العلاقة تقوم على تبادل المصالح والمنافع الاستراتيجية.
ورغم التحديات التي واجهت البلدين، أثبتت العلاقة متانتها واستمراريتها. فقد دعمت السعودية باكستان في نزاعاتها مع الهند، وساندتها الأخيرة عسكريًا خلال حرب الخليج عام 1991، كما تعزز التعاون بينهما في الحرب على الإرهاب بعد 2001. واليوم تمثل هذه العلاقة التاريخية المتجذرة أساسًا للتحالف الدفاعي الجديد بين البلدين، الذي يعكس امتدادًا طبيعيًا لشراكة استراتيجية تجاوزت سبعة عقود من التعاون الوثيق.
الاتفاقية الدفاعية السعودية–الباكستانية
تمثل الاتفاقية الدفاعية بين المملكة العربية السعودية وباكستان مرحلة جديدة في العلاقات الثنائية، إذ تجمع بين التعاون العسكري التقليدي والطموحات الاستراتيجية بعيدة المدى، وتعكس رغبة الجانبين في بناء تحالف مؤسسي قادر على مواجهة التحديات الأمنية المستقبلية. وتشير الاتفاقية إلى انتقال العلاقة من التعاون المحدود إلى شراكة رسمية ذات طابع إلزامي.
ترتكز الاتفاقية على مبدأ الدفاع المشترك، بحيث يُعد أي هجوم على أحد الطرفين اعتداءً على الآخر، ما يمنحها طابعًا مشابهًا لآليات الأمن الجماعي في التحالفات الدولية الكبرى. هذا التحول يمنح الشراكة بين البلدين بعدًا استراتيجيًا أعمق يتجاوز التدريب وتبادل السلاح نحو التزام أمني شامل ومتبادل.
كما تنص الاتفاقية على توسيع التعاون في مجالات التدريب والصناعات الدفاعية، في إطار سعي السعودية إلى توطين نصف إنتاجها العسكري ضمن “رؤية 2030”، مستفيدة من خبرة باكستان في تقنيات الصواريخ والطائرات المسيّرة. ويُعد هذا التعاون خطوة عملية نحو بناء قاعدة دفاعية سعودية ذاتية تعتمد على الشراكة الإسلامية بدلًا من الاعتماد الكامل على الغرب.
ورغم غياب أي إشارة رسمية للتعاون النووي، فإن الشراكة مع دولة نووية مثل باكستان تُفسَّر ضمنيًا كمظلة ردع غير معلنة. كما تحمل الاتفاقية رسائل استراتيجية متعددة: ردع لإيران، توازن تجاه إسرائيل، وإشارة إلى الولايات المتحدة بأن الرياض تعيد رسم خياراتها الأمنية. وبذلك تمثل الاتفاقية خطوة محورية في تشكيل محور أمني إسلامي جديد يعيد ترتيب موازين القوى الإقليمية.
السياق الإقليمي للاتفاقية
تأتي الاتفاقية في سياق إقليمي بالغ التعقيد تتشابك فيه المصالح الجيوسياسية والأمنية والدبلوماسية، ما يجعلها انعكاسًا مباشرًا للتحولات في سياسات الرياض وإسلام آباد. فالمنافسة السعودية–الإيرانية لا تزال محور التوازن الإقليمي رغم محاولات التقارب، في حين يعزز التعاون مع باكستان قدرة السعودية على الردع في مواجهة أي تصعيد محتمل. كما يأتي الاتفاق في ظل التوتر الإسرائيلي–الفلسطيني المتجدد الذي أثار قلقًا خليجيًا حول استقرار المنطقة وأمن الطاقة، الأمر الذي يجعل التحالف مع باكستان رسالة داخلية لرفع المعنويات العربية وخارجية لردع الخصوم.
في الوقت ذاته، يعكس الاتفاق تحوّل السعودية نحو تنويع شراكاتها الدفاعية بعد تراجع الالتزامات الأمريكية، في إطار سعيها لتحقيق توازن أكبر بين الحماية الغربية والاستقلال الإقليمي. كما يفرض تعقيد العلاقة بين الرياض ونيودلهي وإسلام آباد تحديًا دبلوماسيًا في الموازنة بين المصالح الاقتصادية مع الهند والتحالف الأمني التاريخي مع باكستان. وبذلك تتجاوز الاتفاقية كونها تفاهمًا ثنائيًا لتتحول إلى أداة استراتيجية تعيد رسم موازين القوى وتوسع نفوذ البلدين ضمن نظام إقليمي جديد قيد التشكل.
تداعيات الاتفاقية على أمن منطقة الشرق الأوسط
تمثل الاتفاقية خطوة استراتيجية نحو إعادة تشكيل الأمن الإقليمي، حيث تتجاوز التعاون الثنائي بين السعودية وباكستان لتصبح أداة فاعلة في مواجهة التوترات الإقليمية مثل الصراع السعودي–الإيراني والتطورات في غزة، في وقت تشهد فيه الضمانات الأمنية الغربية تراجعًا ملحوظًا.
تعزز الشراكة السعودية–الباكستانية قدرة الرياض على الردع العسكري بفضل خبرة باكستان المتقدمة وإمكاناتها النووية، ما يدفع الخصوم الإقليميين مثل إيران إلى إعادة حساباتهم في أي تصعيد محتمل، ويضيف مستوى من الحماية لدول الخليج في مواجهة تهديدات متشابكة.
كما يمهّد الاتفاق الطريق لتشكيل محور أمني إسلامي موسع بقيادة السعودية وبدعم من دول مؤثرة مثل مصر وتركيا، ما يحد من توسع النفوذ الإيراني ويعزز التضامن الإسلامي تجاه القضايا الإقليمية، ويعكس تحولًا جوهريًا في فلسفة الأمن بالمنطقة من الاعتماد على الضمانات الخارجية إلى بناء منظومة إقليمية مستقلة ومرنة.
مصر وتركيا في توازن القوى الأمني الجديد
تُعد مصر فاعلًا محوريًا في الأمن العربي والإقليمي، بفضل موقعها الاستراتيجي عند قناة السويس والبحر الأحمر، وكثافة سكانها التي تمنحها عمقًا استراتيجيًا، إلى جانب قوتها العسكرية التي تُصنّف من بين الأقوى في المنطقة. وتضع هذه العوامل مصر كلاعب رئيسي في الترتيبات الأمنية المستقبلية. في ظل الاتفاقية الدفاعية السعودية–الباكستانية، تعمل مصر كفاعل مستقل بصياغة استراتيجيتها لموازنة القوى الإقليمية ومنع استقطاب المنطقة أو ربطها بتحالفات مغلقة، مع التركيز على تعزيز الأمن الجماعي العربي والاستقرار الإقليمي من خلال قدراتها العسكرية، ومبادراتها الدبلوماسية، ودعم القضايا المركزية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
أما تركيا، فبالرغم من أنها ليست طرفًا مباشرًا في الاتفاقية الدفاعية السعودية–الباكستانية، فإن موقعها الاستراتيجي وتاريخها الطويل في الانخراط بشؤون المنطقة يمنحانها تأثيرًا مهمًا على ديناميات الأمن الإقليمي. وترتبط تركيا بعلاقات وثيقة مع كلٍّ من السعودية وباكستان، تشمل التعاون العسكري والروابط الدبلوماسية، مما يمنحها نفوذًا ملموسًا في القضايا الأمنية الإقليمية. وقد يؤدي الاتفاق الجديد إلى إعادة ترتيب أولويات تركيا الاستراتيجية، سواء من خلال تعزيز علاقاتها الثنائية مع الفاعلين الإقليميين أو من خلال زيادة مشاركتها في المنتديات الأمنية متعددة الأطراف. وهكذا، تبرز تركيا كفاعل مرن يوازن بين شراكاته ونفوذه الإقليمي ومصالحه الأمنية، مع تعديل استراتيجيته بما يتوافق مع التغيرات في توازن القوى.
وبهذا الشكل، تعمل مصر كقوة مستقرة ومستقلة في المنطقة، بينما يكمل الدور الاستراتيجي المرن لتركيا المشهد الإقليمي، حيث تجعل تحالفاتها التاريخية ونفوذها الدبلوماسي منها وسيطًا محتملاً وعامل توازن في الأمن الإقليمي الجديد.
السيناريوهات المستقبلية
تفتح الاتفاقية الدفاعية آفاقًا لسيناريوهات قد تُعيد تشكيل ميزان القوى في الشرق الأوسط، في ظل التحولات السريعة وتراجع نفوذ القوى الكبرى التقليدية.
يتمثل السيناريو الأول في نجاح الاتفاقية وتوسّعها لتشمل فاعلين عربًا ومسلمين مثل مصر وتركيا وقطر، ما قد يؤدي إلى نشوء محور أمني إسلامي جديد يمنح المنطقة استقلالية أكبر عن الضمانات الغربية ويُعيد رسم التوازن الإقليمي.
أما السيناريو الثاني فيرتبط بردود الفعل الإقليمية؛ إذ قد تعتبر إيران الاتفاق تهديدًا مباشرًا فتعزز دعمها لحلفائها في اليمن ولبنان والعراق، بينما تراه إسرائيل تحديًا استراتيجيًا في ظل استمرار عدوانها على غزة. وفي المقابل، قد ترحّب الولايات المتحدة بتقاسم الأعباء الأمنية لكنها تظل حذرة من أي تقارب يقلل اعتماد الرياض عليها.
ويُبرز السيناريو الثالث الدور المستقبلي للشرق الأوسط في النظام الدولي المتعدد الأقطاب، حيث يمكن لمحور سعودي–باكستاني، مدعوم من دول عربية وإسلامية أخرى، أن يمنح المنطقة ثقلًا أكبر في التفاعلات الجيوسياسية العالمية ويتيح لها التفاوض مع القوى الكبرى من موقع قوة لا تبعية.
الخاتمة
تمثل الاتفاقية السعودية–الباكستانية نقطة انطلاق لإعادة تعريف مفهوم الأمن في الشرق الأوسط. وإذا ما أُحسن توظيفها، فقد تمهّد لمرحلة جديدة من التوازن الاستراتيجي القائم على الشراكة الإقليمية بدلًا من الاعتماد الأحادي على القوى الخارجية، مما يجعلها خطوة تاريخية نحو نظام أمني إقليمي أكثر استقلالًا واستقرارًا.
ومع ذلك، تبقى التحديات كبيرة؛ إذ قد تسعى كل من إيران وإسرائيل إلى إبطاء هذا المسار أو تقويضه، في حين تتابع الولايات المتحدة عن كثب تأثيراته على نفوذها في المنطقة. وستتحدد مدى نجاح الاتفاقية بقدرة الرياض وإسلام آباد على تعميق التعاون وتحويلها من إعلان سياسي إلى شراكة دفاعية عملية من خلال المناورات المشتركة، وتبادل المعلومات، وتطوير الصناعات الدفاعية.