المركز السويدي لدراسات الأمن الدولي والإرهاب – SCISTS
تحليل – بعد ثمانين عامًا على تأسيسها، تمر الأمم المتحدة بأزمة متعددة الأبعاد. التراجع في التزام الولايات المتحدة، مع تخفيض كبير في الدعم، قد يغير بشكل جوهري أسس عمل المنظمة. كما لم تعد الأمم المتحدة تحتل الدور المحوري على الصعيد الدولي في منع الحروب أو وقفها. بالإضافة إلى ذلك، يتراجع احترام الدول لميثاق الأمم المتحدة، الذي يمنع الاعتداءات المسلحة على الدول الأخرى، بشكل متزايد.
في الرابع والعشرين من أكتوبر يُحتفل بيوم الأمم المتحدة، وقد مرّ 80 عامًا منذ أن تم اعتماد ميثاقها من قبل عدد كافٍ من الدول لدخوله حيز التنفيذ. تُعتبر الأمم المتحدة منظمة فريدة تأسست بعد الحرب العالمية الثانية بهدف منع نشوب صراعات مسلحة عالمية جديدة، ويشير الميثاق إلى “إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحرب، التي سببت للبشرية مرتين خلال حياتنا معاناة لا توصف”. ومن خلال منظومتها، أسست الأمم المتحدة نظامًا يهدف إلى تقليل المخاطر ليس فقط على مستوى الحروب العالمية، بل على الصراعات العسكرية بشكل عام، من خلال القدرة على التعامل مع الأزمات عند حدوثها وتنفيذ جهود تقلل من أسبابها.
الأمم المتحدة: من الشلل إلى التدخل
خلال معظم فترة الحرب الباردة، كانت الأمم المتحدة شبه مشلولة بسبب التوترات بين القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وحلفائهم والدول والجماعات المتمردة حول العالم. ومع ذلك، استطاع أمناء عامون نشيطون مثل السويدي داغ همرشولد الاستفادة من فترات التوتر المنخفض لتوسيع دور المنظمة، من خلال تحديد مجالات يمكن للقوى العظمى التعاون فيها بشكل تكتيكي محدود، كما حدث خلال أزمة السويس عام 1956 بين مصر وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا. وعلى الرغم من هذه المحاولات، فإن طبيعة العداء بين أقوى دول العالم جعلت الأمم المتحدة غالبًا غير قادرة على العمل بالطريقة التي كانت مقصودة عند تأسيسها.
مع اقتراب نهاية الحرب الباردة، بدأت تظهر فرص جديدة للتعاون بين القوى الكبرى ضمن إطار منظومة الأمم المتحدة. وقد شكل غزو العراق للكويت عام 1990 نقطة تحول مهمة، إذ اتفق مجلس الأمن على إدانة هذا الانتهاك الصارخ لميثاق الأمم المتحدة الذي يحظر غزو الدول الأخرى، ومنح تفويضًا لقوة دولية بقيادة الولايات المتحدة لطرد العراق من الكويت، مما أبرز قدرة المنظمة على التدخل في الأزمات الدولية حين تتوافر الإرادة السياسية.
التسعينيات: نشاط الأمم المتحدة وتحديات العالم
فتحت تجربة توحّد القوى الكبرى لتحقيق أهداف مشتركة بموجب ميثاق الأمم المتحدة المجال أمام نشاط واسع للأمم المتحدة خلال التسعينيات. خلال هذه الفترة، قامت المنظمة بإرسال وسطاء لحل النزاعات، ونشرت قوات حفظ السلام التي تم الاتفاق عليها على طاولة المفاوضات، وقدمت كوادر متخصصة لإعادة بناء الدول التي دمرتها الحروب، رغم أن الحروب والإبادة الجماعية في يوغوسلافيا السابقة ورواندا أظهرت أحيانًا حدود قدرة المنظمة على النجاح.
ومع اقتراب نهاية التسعينيات وما بعدها، بدأ تراجع دور الأمم المتحدة نتيجة تصاعد الخلافات بين القوى الكبرى، مما يعكس ضعف التعددية والإيمان بالتعاون الدولي. لقد غيرت روسيا السلطوية والقومية ذات الطموحات الإمبريالية تجاه جيرانها الظروف العالمية للتعاون، فيما أعاد صعود الصين القوية تشكيل موازين القوى الدولية. وفي الآونة الأخيرة، شهدنا خلال عهد الرئيس دونالد ترامب تراجع الولايات المتحدة عن دورها كضامن للنظام العالمي متعدد الأطراف، فقد اتجهت البلاد داخليًا نحو الانعزال وابتعدت عن التعاون الدولي والتفاهمات القائمة بين الدول. وفي الوقت نفسه، تصرفت الإدارة الأمريكية خارجيًا بشكل أحادي، حيث تدخلت كوسيط في عدد من النزاعات حول العالم، غالبًا خارج إطار التعاون متعدد الأطراف.
الأمم المتحدة في مواجهة أزمة متعددة الأبعاد
يواجه نظام الأمم المتحدة أزمة متعددة الأبعاد، أحد أبرز جوانبها الاقتصادية. عندما تولى ترامب الرئاسة مرة أخرى في يناير 2025، توقع الكثيرون إمكانية تقليص المساهمات الأمريكية للمنظمة الدولية، لكن حجم هذه التخفيضات وسرعة تنفيذها صدمت منظومة الأمم المتحدة.
يشكل الانسحاب الأمريكي من الأمم المتحدة خطرًا قد يغير جذريًا أسس عمل المنظمة. إذ يقوم نظام الأمم المتحدة على التزام الولايات المتحدة، بصفتها أكبر اقتصاد عالمي وقوة سياسية وعسكرية، بتحمل الجزء الأكبر من تمويل الأمم المتحدة وعدد من منظماتها الفرعية. كما كان للولايات المتحدة تأثير كبير في النظام الأممي، ويُعد وجود المقر الرئيسي في نيويورك مثالًا على ذلك.
عندما تقلل الولايات المتحدة، بصفتها أكبر مانح – سواء من خلال خفض الاشتراكات المباشرة للعضوية أو المساهمات الطوعية عبر وكالة المساعدات الأمريكية USAID – دعمها، فإن ذلك يترتب عليه عواقب دراماتيكية على أنشطة المنظمة حول العالم. ومع ذلك، لا يمكن إلقاء اللوم على واشنطن وحدها، فالكثير من الدول الأخرى تتأخر بشكل منهجي في دفع المساهمات المستحقة لها كأعضاء. وعند انسحاب الولايات المتحدة، يملأ الفجوات بشكل جزئي فقط، إذ لم تتعهد الدول الأوروبية أو القوى الناشئة مثل الصين بتغطية ما تركته الولايات المتحدة، كما أن زيادة دور هذه الدول ستؤثر أيضًا على عمل الأمم المتحدة ومساهماتها.
صعود الصين
أشارت الصين إلى استعداد أكبر لتكون أحد ركائز النظام متعدد الأطراف. ومن أبرز المؤشرات على ذلك إعلان جديد للرئيس شي جين بينغ تحت عنوان “مبادرة الحوكمة العالمية”، الذي يوضح أن الصين تأخذ دورها كقوة عظمى عالمية على محمل الجد. ويجلب ذلك فرصًا وتحديات في الوقت نفسه، فدعم لاعب عالمي مثل الصين للنظام متعدد الأطراف يعزز من قوته وشرعيته، بينما قد يؤدي تزايد الدور الصيني إلى تهميش بعض مجالات عمل الأمم المتحدة، مثل جهودها في مجال حقوق الإنسان.
تُهدد الأزمة الاقتصادية عمل الأمم المتحدة وقد تجعل المنظمة أقل تأثيرًا في وقت الحاجة إليها الأكبر. ومع ذلك، من المهم أن نرى أنه إذا تم التعامل مع الأزمة المالية بشكل صحيح، يمكن أن تنجم عنها فوائد، إذ قد يؤدي ذلك إلى تعزيز فعالية منظومة الأمم المتحدة وجعلها أكثر ملاءمة لأهدافها، خصوصًا بالنظر إلى 3600 تفويض فردي منحتها الدول الأعضاء للأمانة العامة، والتي يمكن أن تستفيد من ترتيب الأولويات بشكل أكثر صرامة.
إدارة النزاعات
أزمة الأمم المتحدة ليست اقتصادية فقط، بل تتعلق أيضًا بخطر فقدان المنظمة لدورها كممثل رئيسي في النظام الدولي. في العديد من الحروب حول العالم، مثل غزة وأوكرانيا والسودان وميانمار، اقتصر دور الأمم المتحدة بشكل رئيسي على العمل الإنساني، ولم تتمكن المنظمة إلا بدرجة محدودة من منع الحروب أو دفع الأطراف نحو حلول سلمية.
يتكون هيكل الأمم المتحدة من الجمعية العامة، حيث لكل دولة صوت واحد، ومجلس الأمن المكون من 15 عضوًا منهم 5 دائمون لديهم حق النقض (الفيتو)، بالإضافة إلى الأمانة العامة التي تنسق وتدير عددًا من الأجهزة المعنية بمختلف القضايا. في بعض الحالات، تمكنت هذه المكونات من التعويض عندما تعطلت أخرى، كما حدث في بداية الحرب في أوكرانيا، عندما أخذت الجمعية العامة دورًا أكبر للحفاظ على احترام ميثاق الأمم المتحدة عبر مبدأ “متحدون من أجل السلام”، الذي يسمح بتحويل القضايا التي لا يتفق بشأنها مجلس الأمن إلى الجمعية العامة، رغم أن صلاحياتها ليست بمستوى مجلس الأمن.
تزايد استخدام حق النقض (الفيتو)
يرى الكثيرون أن نظام حق النقض (الفيتو) هو أحد أسباب أزمة الأمم المتحدة وجمود مجلس الأمن. فقد شهدنا زيادة في استخدام الفيتو خلال السنوات الأخيرة، رغم أنه لا يزال أقل شيوعًا مقارنة بفترة الحرب الباردة، حيث يقوم أحد الأعضاء الدائمين الخمسة في المجلس بالتصويت بـ”لا” على أي اقتراح، فيتوقف تلقائيًا تنفيذه.
على مر الزمن، نلاحظ أيضًا أن نسبة متزايدة من القرارات تُتخذ بأغلبية أصوات أعضاء المجلس (9 من أصل 15 صوتًا) بدلًا من الوصول إلى توافق كامل بين جميع الأعضاء، وهو ما يعكس عمق الانقسامات والخلافات بينهم. ويُعتبر استخدام الفيتو عاملًا يفسر جزئيًا سبب عدم قدرة الأمم المتحدة على حل بعض النزاعات وإنهائها، مثل النزاع في إسرائيل-فلسطين، حيث استخدمت الولايات المتحدة 21 من أصل 26 فيتو بين عامي 1990 و2024 تتعلق بالقضية الفلسطينية أو الأراضي العربية المحتلة، وكذلك النزاع في سوريا، حيث استخدمت روسيا نصف فيتوها خلال الفترة نفسها. ومع ذلك، فإن الفيتو وحده لا يفسر فشل المجلس في التعامل مع نزاعات كبرى أخرى، مثل الحروب في جمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان وميانمار، والتي أظهرت محدودية قدرة المجلس على التدخل وحل النزاعات المعقدة على نحو فعال.
الأمر الأخطر من ذلك هو تراجع الاحترام تجاه ميثاق الأمم المتحدة على مر السنين، وخاصة فيما يتعلق بالمعيار الدولي الراسخ ضد العدوان المسلح على الدول الأخرى – ما يسميه الميثاق “انتهاكات السلم”. وقد تجلى ذلك في عدة انتهاكات، بدءًا من الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، مرورًا بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وانتهاء بالتدخل الرواندي في الكونغو الديمقراطية، مما يظهر تآكل الالتزام بالقواعد الدولية التي صُمم الميثاق لحمايتها.
التهديد أصبح أمرًا مألوفًا
يمكن أن تستمر المعايير الدولية حتى في حال حدوث انتهاكات لها، إذا كانت الدول الأعضاء الأخرى ترد بشكل كافٍ على السلوكيات المخالفة. ومن المثير للقلق أن روسيا وإسرائيل ورواندا تمكنت من التصرف دون أن تتعرض لإشارات رادعة كافية من المجتمع الدولي. كما أن تطبيع التهديد بغزو دول أخرى – مثل التهديدات الأمريكية ضد الدنمارك (غرينلاند) وكندا، والإسرائيلية ضد إيران، والفنزويلية ضد غيانا، والإثيوبية ضد إريتريا – يمثل، من هذا المنظور، لغة تهدد صون هذه المعايير الدولية المهمة.
وفي الوقت نفسه، يدخل البرتغالي أنطونيو غوتيريش عامه الأخير كأمين عام للأمم المتحدة، بينما تجري حاليًا عملية اختيار خليفته. يرى كثيرون أن الوقت قد حان لتولي امرأة هذا المنصب، بعد أن ظل محتكرًا للرجال طوال الفترة السابقة. غير أن الظروف العالمية المحافظة، لا سيما في الولايات المتحدة، تقلل من احتمالية حدوث ذلك. من المقرر أن يتولى الأمين العام الجديد منصبه في يناير 2027، حيث سيواجه تحديات جسيمة للأمم المتحدة، ومن المرجح أن يستحضر كلمات الأمين العام الأول للأمم المتحدة، تريغفي لي، لخليفته داج همرشولد عام 1953:
– مرحبًا بك في أصعب مهمة في العالم!